فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة الإخلاص:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أحد (4)}
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة.
قال البخاري: حدثنا إسماعيل: حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعد، أن رجلا سمع رجلا يقرأ: {قل هو الله أحد} يرددها. فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له- وكأن الرجل يتقالها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن».. وليس في هذا من غرابة. فإن الأحدية التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلنها: {قل هو الله أحد}.. هذه الأحدية عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة.. وقد تضمنت السورة- من ثم- أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة..
{قل هو الله أحد}.. وهو لفظ أدق من لفظ (واحد).. لأنه يضيف إلى معنى (واحد) أن لا شيء غيره معه. وأن ليس كمثله شيء.
إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده. وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية.
وهي- من ثم- أحدية الفاعلية. فليس سواه فاعلا لشيء، أو فاعلا في شيء، في هذا الوجود أصلا. وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا.. فإذا استقر هذا التفسير، ووضح هذا التصور، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية.
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود- إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا!- فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي. ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية. فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته!
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة.. فعندئذ يتحرر من جميع القيود، وينطلق من كل الأوهاق. يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة. وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله؟
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها- وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه. وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله. لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله.
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب. ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت، وبه تأثرت.. وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني. ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.. {وما النصر إلا من عند الله}.. {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}.. وغيرها كثير..
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها، تنسكب في القلب الطمأنينة، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب، ويتقي عنده ما يرهب، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود!
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة، فجذبتهم إلى بعيد! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها، ويزاولون الحياة البشرية، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله. وأن لا وجود إلا وجوده. وأن لا فاعلية إلا فأعلىته.. ولا يريد طريقا غير هذا الطريق!
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات: منهج لعبادة الله وحده. الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولا حقيقة لفاعلية إلا فأعلىته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته.
ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة. في السراء والضراء. في النعماء والبأساء. وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا؟!
ومنهج للتلقي عن الله وحده. تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم، والآداب والتقاليد. فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير.
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده.. ابتغاء القرب من الحقيقة، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة. سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس. ومن بينها حاجز الذات، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود!
ومنهج يربط- مع هذا- بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب. فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها.. فكلها خارجة من يد الله؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة. فكلها إذن حبيب، إذ كلها هدية من الحبيب!
وهو منهج رفيق طليق.. الأرض فيه صغيرة، والحياة الدنيا قصيرة، ومتاع الحياة الدنيا زهيد، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية.. ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب.. إنما معناه المحاولة المستمرة، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها، وإطلاق الحياة البشرية جميعها.. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما. كما أسلفنا.
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير. ولكن الإسلام لا يريده. لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص. إنه طريق أشق، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان. أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه.. وهذا هو الانطلاق. انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي، وتحقيق حقيقتها العلوية. وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم..
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب. لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة. وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير. إنما هو الأمر كله، والدين كله؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب.
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص. ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات.
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها، وقيام الحياة على أساسها، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء. وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة. فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة..
ومعنى أن الله أحد: أنه الصمد. وأنه لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد.. ولكن القرآن يذكر هذه التفريعات لزيادة التقرير والإيضاح: {الله الصمد}.. ومعنى الصمد اللغوي: السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه. والله- سبحانه- هو السيد الذي لا سيد غيره، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه، ولا يقضي أحد معه.. وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد.
{لم يلد ولم يولد}.. فحقيقة الله ثابتة أبدية أزلية، لا تعتورها حال بعد حال. صفتها الكمال المطلق في جميع الأحوال. والولادة انبثاق وامتداد، ووجود زائد بعد نقص أو عدم، وهو على الله محال. ثم هي تقتضي زوجية. تقوم على التماثل. وهذه كذلك محال. ومن ثم فإن صفة {أحد} تتضمن نفي الوالد والولد..
{ولم يكن له كفوا أحد}.. أي لم يوجد له مماثل أو مكافئ. لا في حقيقة الوجود، ولا في حقيقة الفاعلية، ولا في أية صفة من الصفات الذاتية. وهذا كذلك يتحقق بأنه {أحد} ولكن هذا توكيد وتفصيل.. وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلها يعاكس الله- بزعمهم- ويعكس عليه أعماله الخيرةوينشر الفساد في الأرض. وأشهر العقائد الثنائية كانت عقيدة الفرس في إله النور وإله الظلام، وكانت معروفة في جنوبي الجزيرة العربية حيث للفرس دولة وسلطان!!
هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية، كما أن سورة (الكافرون) نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك.. وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح يومه- في صلاة سنة الفجر- بالقراءة بهاتين السورتين.. وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد (1)}
الأحد: قال القرطبي: أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له ولا نظير، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا شريك. اهـ.
ومعلوم أن كل هذه المعاني صحيحة، في حقه تعالى.
واصل أحد: وحد: قلبت الواو همزة.
ومنه قول النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ** بذي الجليل على مستأنس وحد

وقال الفخر الرازي في أحد وجهان:
أحدهما: أنه بمعنى وأحد.
قال الخليل: يجوز أن يقال: أحد اثنان ثلاثة، ثم ذكر أصلها وحد، وقلبت الواو همزة للتخفيف.
والثاني: أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين.
قال الأزهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحد، كما يقال: رجل واحد أي فرد به، بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء.
ثم قال: ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوهًا:
أحدهما: أن الواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل فيه.
وثانيها: أنك لو قلت: فلان لا يقاومه وأحد، جاز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان بخلاف الأحد.
فإنك لو قلت: فلان لا يقاومه أحد، لا يجوز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان.
وثالثها: أن الواحد، يستعمل في الإثبات، والأحد يستعمل في النفي.
تقول في الإثبات رأيت رجلًا واحدًا.
وتقول في النفي: ما رأيت أحدا، فيفيد العموم.
أما ما نقله عن الخليل، وقد حكاه صاحب القاموس فقال: ورجل وحد وأحد، أي خلافًا لما قاله الأزهري.
وأما قوله: إن أحدا تستعمل في النفي فقد جاء استعمالها في الإثبات أيضًا.
كقوله: {أَوْ جَاءَ أحد مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط} [المائدة: 6].
فتكون أغلبية في استعمالها ودلالتها في العموم واضحة.
وقال في معجم مقاييس اللغة في باب الهمزة والحاء وما بعدها: أحد، إنها فرع والأصل الواو وحد.
وقد ذكر في الواو وفي مادة وحد.
قال: الواو والحاء والدال أصل وأحد يدل على الانفراد من ذلك الوحدة بفتح الواو وهو أحد قبيلته، إذا لم يكن فيهم مثله.
قال:
يا وأحد العرب الذي ** ما في الأنام له نظير

وقيل: إن هذا البيت لبشار يمدح عقبة بن مسلم، أو إلى ابن المولى يزيد بن حاتم، نقلًا عن الأغاني، فيكون بهذا ثبت أن الأصل بالواو والهمزة فرع عنه، وتقدم أن دلالتها على العموم أوضح أي أحد.
وقد دلت الآية الكريمة، على أن الله سبحانه وتعالى أحد، أي في ذاته وصفاته لا شبيه ولا شريك، ولا نظير ولا ند له، سبحانه وتعالى، وقد فسره ضمنا قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أحد} [الإخلاص: 4].
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، أما المعنى العام فإن القرآن كله، والرسالة المحمدية كلها، بل وجميع الرسالات، إنما جاءت لتقرير هذا المعنى، بأن الله سبحانه وأحد أحد.
بل كل ما في الوجود شاهد على ذلك.
كما قيل:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحد

أما نصوص القرآن على ذلك فهي أكثر من أن تحصى، لأنها بمعنى لا إله إلا الله.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، إشارة إلى ذلك في أول الصافات وفي غيرها، وفي البقرة {وإلهكم إله وَأحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163].
وفي التوبة: {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها واحدًا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [التوبة: 31]، فجاء مقرونًا بلا إله إلاَّ الله.
وفي ص قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار} [ص: 65].
وكما قدمنا أن الرسالة كلها جاءت لتقرير هذا المعنى، كما في قوله: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَأحد} [إبراهيم: 52]، سبحانه جل جلاله وتقدمت أسماؤهن وتنزهت صفاته، فهو واحد أحد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله.
وقد جاء القرآن بتقرير هذا المعنى عقلًا كما قرره نقلًا، وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقولونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلًا سبحانه وتعالى عَمَّا يَقولونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 42-43].
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].
فدل على عدم فسادهما بعدم تعددهما، وجمع العقل والنقل في قوله: {مَا اتخذ الله مِن ولد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}
قال بعض المفسرين: يفسره ما بعده {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد} وقال ابن كثير، وهذا معنى حسن.
وقال بعض العلماء: هو المتناهي في السؤدد، وفي الكمال من كل شيء.
وقيل: من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم، ولا يحتاج هو إلى أحد.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، معنى الصمد في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] فذكر شواهد هذه الأقوال كلها.
وبإمعان النظر في مبدأ يفسره ما بعده، يتضح أن السورة كلها تفسير لأولها {قُلْ هُوَ الله أحد} لأن الأحدية، هي تفرده سبحانه بصفات الجلال والكمال كلها، ولأن المولود ليس بأحد، لأنه جزء من والده.
والوالد ليس بأحد، لأن جزءًا منه في ولده.
وكذلك من يكون له كفء. فليس بأحد لوجود الكفء، وهكذا السورة كلها لتقرير {قُلْ هُوَ الله أحد}
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد (3)}
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان شواهده عند قوله تعالى: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ ولدا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} [الفرقان: 2] الآية من سورة الفرقان.
تنبيه:
ففي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة، لأن اتخاذ الولد قد يكون بدون ولادة كالتبني أو غيره، كما في قصة يوسف في قوله تعالى عن عزيز مصر: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ ولدا} [يوسف: 21].
ففي هذه السورة نفي أخص، فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة وهي سورة الإخلاص. والتي تعدل ثلث القرآن لاختصاصها بحق الله تعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية، ونفي الولادة والولد، ونفي الكفء، وكلها صفات انفراد الله سبحانه.
وقد جاء فيها النص الصريح بعد الولادة، وأنه سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد، فهي أخص من تلك، وهذا من المسلمات عن المسلمين جميعًا بدون شك ولا نزاع ولم يؤثر فيها أي خلاف.
ولكن غير المسلمين لم يسلموا بذلك، فاليهود قالوا: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: الملائكة بنات الله.
فاتفقوا على ادعاء الولد لله، ولم يدع أحد أنه سبحانه مولود.
وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه، وفي هذه السورة وهي المختصة بصفات الله، لم يأت التنويه فيها عن المانع من اتخاذ الله للولد، ومن كونه سبحانه لو يولد.
ولما كان بيان المانع أو الموجب من منهج هذا الكتاب، إذا كان يوجد للحكم موجب أو مانع وام تتقدم الإشارة إلى ذلك، فيما تقدم من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مع أنه رحمه الله، قد تكلم على آيات الأسماء والصفات جملة وتفصيلًا، بما يكفي ويشفي.
ولكن جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلًا مع الإشعار بالدليل العقلي، ولذا لزم التنويه عليه، وذلك في قوله تعالى: {وَقالواْ اتخذ الله ولدا سبحانه بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116-117].
فهذا نص صريح فيما قالوه: {اتخذ الله ولدا}.
ونص صريح في تنزيه الهل سبحانه وتسبيحه عما قالوا.
ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]، ففيه بيان المانع عقلًا من اتخاذ الولد بما يلزم الخصم، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون بارًا بوالده، وأن ينتفع الوالد بولده. كما في قوله تعالى: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46]، أو يكون الولد وارثًا لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام:
{فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5-6] الآية.
والله سبحانه وتعالى حي باق يرث ولا يورث كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 26-27] الآية.
وقوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} [آل عمران: 180].
فإذا كان لله سبحانه وتعالى كل ما في السماوات والأرض في قنوت وامتثال طوعًا أو كرهًا، كما قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ ولدا إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْدًا} [مريم: 92-93].
فهو سبحانه وتعالى ليس في حاجة إلى الولد لغناه عنه.
ثم بين سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع في قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
وهذا واضح في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى.
وقد تمدح سبحانه في قوله: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ ولدا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
أما أنه لم يولد. فلم يدع أحد عليه ذلك. لأنه ممتنع عقلًا، بدليل الممانعة المعروف وهو كالآتي: لو توقف وجوده سبحانه على أن يولد لكان في وجوده محتاجًا إلى من يوجده، ثم يكون من يلده في حاجة إلى والد، وهكذا يأتي الدول والتسلسل وهذا باطل.
وكذلك فإن الحاجة إلى الولد بنفيها معنى الصمدية المتقدم ذكره، ولو كان له والد لكان الوالد أسبق وأحق، تعالى الله عن ذلك.
وقد يقال: من جانب الممانعة العقلية لو افترض على حد قوله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81].
فنقول على هذا الافتراض: لو كان له ولد فما مبدأ وجود هذا الولد وما مصيره؟ فإن كان حادثًا فمتى حدوثه؟ وإن كان قديمًا تعدد القدم، وهذا ممنوع.
ثم إن كان باقيًا تعدد البقاء، وإن كان منتهيًا فمتى انتهاؤه؟
وإذا كان مآله إلى الانتهاء فما الحاجة إلى إيجاده مع عدم الحاجة إليه، فانتفى اتخاذ الولد عقلًا ونقلًا، كما انتقت الولادة كذلك عقلًا ونقلًا.
وقد أورد بعض المفسرين سؤالًا في هذه الآية، وهو لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة؟ مع أن الأصل في المشاهد أن يولد ثم يلد؟
وأجاب بأنه من تقديم الأهم لأنه رد على النصارى في قولهم: عيسى ابن الله، وعلى اليهود في قولهم: عزيز ابن الله، وعلى قول المشركين: الملائكة بنات الله، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه مولود لأحد، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى. اهـ.
كما قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقولونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5].
وقوله: {وَقالواْ اتخذ الرحمن ولدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن ولدا} [مريم: 88-91].
فلشفاعة هذه القرية قدم ذكرها، ثم الرد على عدم إمكانها بقوله: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ ولدا إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْدًا} [مريم: 92-93].
وقد قدمنا دليل المنع عقلًا ونقلًا.
وهنا سؤال أيضًا، وهو إذا كان ادعاء الولد قد وقع، وجاء الرد عليه: فإن ادعاء الولادة لم يقع، فلماذا ذكر نفيه مع عدم ادعائه؟
والجواب والله تعالى أعلم: أن من جوّر الولادة له وأن يكون له ولد، فقد يجوز الولادة عليه، وأن يكون مولودًا فجاء نفيها تتمة للنفي والتنزيه، كما في حديث البحر، كان السؤال عن الوضوء من مائة فقط، فجاء الجواب عن مائة وميتته، لأن ما احتمل السؤال في مائة يحتمل الاشتباه في ميتته. والله تعالى أعلم.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد (4)}
وقالوا: كفؤا وكفوًا وكفاء، بمعنى وأحد، وهو المثل.
وقد تعددت أقوال المفسرين في معنى الآية، وكلها تدور على معنى نفي المماثلة.
فعن كعب وعطاء: لم يكن له مثل ولا عديل.
وروى ابن جرير عن ابن عباس: أنه بمعنى ليس كمثله شيء.
وعن مجاهد: أي لا صاحبة له.
وقد جاء نفي الكفء والمثل والند والعدل، فالكفء في هذه السورة والمثل في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} [النحل: 74].
والند في قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
والعدل في قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند آية الأنعام بيان لذلك، أي يساوونه بغيره من العدل بكسر أوله، وهو أحد شقي حمل البعير على أحد التفسيرين، والآخر من العدول عنه إلى غيره.
وفي هذه السورة مبحثان يوردهما المفسرون. أحدهما: أسباب نزولها.
والآخر: ما جاء في فضلها، ولم يكن موضوع هذا الكتاب تتبع ذلك، إلا ما كان له دوافع تتعلق بالمعنى.
أما ما جاء في فضلها، فقد قال أبو حيان في تفسيره: لقد أكثر المفسرون إيراد الآثار في ذلك، وليس هذا محلها، وهو كما قال، فقد أوردها ابن كثير والفخر الرازي والقرطبي وابن حجر في الإصابة في ترجمة معاذ بن جبل وغيرهم، وليس هذا محل إيرادها، اللهم إلا ما جاء في الصحيح: أن تلاوتها تعدل ثلث القرآن لتعلق موضوعها بالتوحيد.
أما المبحث الآخر وهو سبب نزولها، فقيل فيه. إن المشركين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن ينسب لهم ربه، فنزلت.
وقوله فيها {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد}، رد على إثبات النسب له سبحانه وتعالى.
وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عن ربه، فقال له: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23].
فجاء جوابه: {قال رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قال لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 24-27].
وكتت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أن موجب قول فرعون عن موسى لمجنون، لأنه سأله بما في قوله: {قال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23]، وما يسأل بها عن شرح الماهية فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب سبحانه وتعالى، من أي شيء هو، كما يقال في جواب: ما الإنسان إنه حيوان ناطق.
ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى أو لتجاهله، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وأجابه عما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أنه سبحانه رب السماوات والأرض وما بينهما، لا ربوبية فرعون الكاذبة.
ومثل ذلك في القرآن، لما سألوا عن الأهلة، ما بالها تبدو صغيرة، ثم تكبر؟ فهو سؤال عن حقيقة تغيرها، فترك القرآن جوابهم على سؤالهم وأجابهم بما يلزمهم وينفعهم.
وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمرود حينما حاجَّه في ربه {إِذْ قال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258].
فذكره سبحانه بصفاته، وفي هذه السورة لما سألوا عن حقيقة الله ونسبه جاء الجواب بصفاته، لأن ما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه، وفي الممكن لا في الواجب الوجود لذاته، سبحان من لا يدرك كنهه غيره، وصدق الله العظيم في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. اهـ.